محمد شفيق غربال (4 يناير 1894 – 19 أكتوبر 1961) مؤرخ مصري.
محمد شفيق غربال واحد من الذين اهتموا بصناعة التلاميذ، وتأسيس المنهج وتعبيد الطريق لمن بعده. وكان تلاميذه يفخرون ويتباهون بالتلمذة على يديه، ويعدون ذلك أفضل مسوغات قبولهم.
لم يكن غربال أول أستاذ للتاريخ الحديث يعمل في الجامعة المصرية فقد سبقه آخرون، مصريون وأجانب، لكنه كان أول من أسس مدرسة تاريخية لدراسة تاريخ مصر الحديث، كان هو رائدها والموجه لها.
وعني شفيق غربال بتلاميذه عن نفسه، فقل بسبب ذلك نتاجه العلمي في الوقت الذي زاد تأثيره في تلاميذه الذين وجههم إلى دراسة جوانب مختلفة من تاريخ مصر الحديث، وكان شديد الصرامة فيما يتصل بالبحث التاريخي، ولا يقبل من تلاميذه إلا أجود الأعمال، وكانت تمر السنوات الطوال في جامعة القاهرة ولا تناقش رسالة يشرف عليها شفيق غربال من فرط تدقيقه في أعمال تلاميذه.
ولم تكن هذه الصرامة العلمية إلا دليل حب لتلاميذه، لأنه يريد أن يرتقي بهم في ميدان البحث العلمي وأن يحققوا ما كان يتمناه لنفسه، وشغل بتأليف التلاميذ عن تأليف الكتب.
وعلى الرغم من انشغاله في ميادين مختلفة فإن مجلسه العلمي الذي كان يعقده كل أسبوع لمتابعة أعمال تلاميذه لم ينقطع، وكان يواليهم ويوجههم إلى آفاق رحيبة، ويسألهم عما يقرءون، ونشأ عن ذلك جيل من المؤرخين المصريين عرفوا بنهمهم وعمق نتاجهم العلمي، هذا الجيل كان الواحد منهم يفخر بأنه من تلاميذ شفيق غربال لأن ذلك كان يعني الدقة والتميز.
- ولد محمد شفيق غربال بمدينة الإسكندرية في (26 جمادى الآخرة 1311هـ/4 يناير 1894م) وتلقى بها تعليمه الابتدائي فالثانوي بمدرسة رأس التين الثانوية، ثم انتقل إلى القاهرة والتحق بمدرسة المعلمين العليا، لأن ذلك المعهد كان الوحيد في مصر الذي يمكن أن يصله بالدراسات الإنسانية وفي مقدمتها دراسة التاريخ. وكان شفيق غربال شديد الغرام بقراءة التاريخ، حتى إنه قرأ فيما قرأ وهو لا يزال طالبا في المدرسة الثانوية كتاب وفيات الأعيان لابن خلكان كاملا.
ويجدر بالذكر أن مدرسة المعلمين العليا أنجبت لمصر عددا من رواد النهضة الأدبية والعلمية، من أمثال الدكتور أحمد زكي، وإبراهيم عبد القادر المازني، وعبد الرحمن شكري، ومحمد فريد أبو حديد، وعبد الحميد العبادي وغيرهم.
- وبعد تخرجه في مدرسة المعلمين العليا سنة 1915 أوفدته الحكومة المصرية في بعثة دراسية إلى جامعة ليفربول بإنجلترا لدراسة التاريخ، ولم يتردد شفيق غربال في السفر إلى إنجلترا رغم ما يتهدد سفره من أخطار حيث كانت الحرب العالمية الأولى مشتعلة، وفي الجامعة أكب غربال على دراسته بكل جهد وعزم حتى حصل على درجة البكالوريوس بمرتبة الشرف سنة 1919.
وبعد عودته إلى مصر عمل مدرسًا في إحدى المدارس الثانوية بالإسكندرية لمدة ثلاث سنوات، ثم أوفد مرة أخرى إلى إنجلترا والتحق بمدرسة الدراسات التاريخية التابعة لجامعة لندن. وفي أثناء دراسته التقى بالمؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي الذي كان يشرف على بحوث الدراسات العليا هناك. وتوثقت بينهما الصلة، ثم أشرف على رسالته التي تقدم بها لنيل درجة الماجستير سنة (1343هـ ـ 1924م) وكانت بعنوان “بداية المسألة المصرية وظهور محمد علي”، ثم نشرت هذه الرسالة في لندن سنة 1928، لكنها إلى الآن لم تترجم إلى العربية.
وكانت هذه الدراسة حدثا علميا استرعى أنظار الأساتذة والباحثين، وخاصة أنها اعتمدت على الوثائق الأوروبية غير المنشورة، وكان هذا أمرا جديدا في تاريخ الدراسات التاريخية في مصر، كما أنها اتسمت بالتحليل واستقراء الأحداث والموضوعية.
وقدم توينبي للرسالة المنشورة بكلمات تبرز أهمية البحث، مؤكدًا أنه قد استفاد من الإشراف عليه أكثر مما أفاد، مشيدًا بتلميذه المؤرخ الناشئ الذي هو بعيد كل البعد عن الميول والأهواء التي تحيط بدراسته، بحيث لو أن اسمه لم يطبع مع البحث لكان من الصعب القول بأن المؤلف إنجليزي أو فرنسي أو مصري.
وتناول في هذه الدراسة التطورات السياسية في مصر منذ الحملة الفرنسية حتى وصول محمد علي إلى الحكم، وأثبت أن المسألة المصرية كانت جزءًا مهمًا من المسألة الشرقية، وأنه لا يمكن فهم هذه المسألة إلا إذا ربطنا بينها وبين ما كان يجري في الدولة العثمانية وأوروبا، وهي الطريقة التي سار عليها أستاذه توينبي في كتاباته التاريخية، فلا يمكن دراسة فترة من تاريخ دولة وتتبع أحداثها دراسة جادة دون النظر إلى ما يجري حولها، فحوادث العالم متشابكة، ولا تقع حادثة دون أن تمتد آثارها إلى البلدان الأخرى، ولكن بدرجات متفاوتة.
- بعد أن عاد غربال إلى مصر في سنة (1344هـ ـ 1925م) عين لتدريس التاريخ بمدرسة المعلمين العليا، وظل بها إلى أن نقل أستاذًا مساعدًا للتاريخ الحديث بكلية الآداب بالجامعة المصرية سنة (1348هـ ـ 1929م)، وكان الأساتذة الأجانب في ذلك الوقت يحتلون معظم كراسي التدريس بالجامعة. ثم ما لبث أن رقي شفيق غربال إلى كرسي أساتذة التاريخ الحديث سنة (1355هـ ـ 1936م) خلفًا للمؤرخ الإنجليزي جرانت، وكان بذلك أول مصري يتولى هذا المنصب، ثم انتخب عميدًا لكلية الآداب سنة (1358هـ ـ 1939م) وبعدها بعام نقل شفيق غربال من جامعة القاهرة إلى وزارة المعارف ليبدأ مرحلة جديدة في خدمة التربية والتعليم، وظل يعمل بها وكيلاً مساعدًا للوزارة حتى سنة (1361هـ ـ 1942م)، عاد بعدها إلى الجامعة ليستأنف نشاطه العلمي بها.
عاد غربال بعد ثلاث سنوات إلى وزارة المعارف مستشارًا فنيا لها، ثم وكيلاً لهذه الوزارة إلى جانب تعيينه أستاذًا غير متفرغ بكلية الآداب سنة (1368هـ ـ 1949م)، ثم نقل وكيلاً لوزارة الشئون الاجتماعية لفترة قليلة، وكان خروجه من منصبه في وزارة المعارف بسبب خلافه مع حكومة الوفد حول السياسة التعليمية إذ كان من رأيه ألا يكون التوسع الكمِّي في التعليم على حساب الكيف الذي يخرج الصفوة الممتازة، فلما خرج حزب الوفد من الحكم سنة (1372هـ ـ 1952م) عاد شفيق غربال للمرة الثالثة وكيلا لوزارة التعليم، ولبث بها حتى سنة (1374هـ ـ 1954م).. وكان له في أثناء عمله بوزارة المعارف مع غيره من زملائه إسهام كبير في حركة التعريب والتمصير الأولى للمقررات التاريخية.
- تمكن شفيق غربال بفضل مقدرته العلمية ودقة ملاحظته وقوة تأثيره في طلابه أن تكون له الريادة الفكرية للمدرسة التاريخية المصرية، ووضع لها خطة تقوم على توجيه الاهتمام إلى دراسة التاريخ القومي الحديث، واستحدث دروسًا في تاريخ مصر الحديث السياسي والاقتصادي، وفي تاريخ الشرق الأدنى الحديث، وشجع المتفوقين من طلابه على متابعة الدراسات العليا لنيل درجتي الماجستير والدكتوراة، وفتح أمامهم آفاق البحث في دور الكتب والوثائق.
وفي أثناء ذلك كان الملك فؤاد معنيا بتاريخ أسرته وخاصة تاريخ محمد علي وأبيه إسماعيل، وأمر بتشكيل لجنة سنة 1925 برئاسة الدكتور “حسن باشا نشأت” لجمع ما في القصر الملكي ودار المحفوظات العمومية بالقلعة والدور الحكومية من وثائق تتعلق بأسرة محمد علي وتصنيفها، وترجمة ما كان منها بالتركية إلى العربية.
واستغل الملك فؤاد علاقته الشخصية مع رؤساء الحكومات في أوروبا واستنسخ تقارير قناصلهم في مصر في القرن التاسع عشر، وأمر بوضع كل تلك الوثائق والتقارير والفرمانات داخل مبنى بقصر عابدين أطق عليه “دار الوثائق السرية والمحفوظات التاريخية الملكية” يهدف إلى إتاحة الفرصة لعدد من المؤرخين لكتابة تاريخ أسرته، غير أن الملك فؤاد كان قليل الثقة في المؤرخين المصريين وفي مقدرتهم على كتابة تاريخ مصر الحديث، فاستقدم بعض المؤرخين الأجانب بعد أن هيأ لهم كل الإمكانات ووعدهم بالمكافآت السخية، وقام هؤلاء بوضع عدد كبير من المؤلفات التاريخية التي تتناول تاريخ أسرة محمد علي وفق التوجيه الخاص للملك فؤاد.
ونزل شفيق غربال وتلاميذه إلى ميدان الكتابة في تاريخ مصر الحديث مزودا بذكاء حاد وثقافة واسعة وقدرة فائقة على البحث والتحليل، وتجرد من الهوى، وإخلاص للحقيقة وحدها، وبدأ في توجيه تلاميذه إلى البحث في تاريخ الأمة المصرية والمجتمع المصري، كتاريخ التعليم والصناعة والتجارة والزراعة، ورغَّبهم في دراسة التاريخ العثماني باعتباره مدخلا لدراسة التاريخ المصري الحديث، ووجههم إلى الاهتمام بجمع المادة التاريخية الأصلية من مصادرها الأولى في دور الوثائق بمصر، وبذلك وضع شفيق غربال وتلاميذه الأساس لبناء التاريخ المصري الحديث، ونقل الإشراف على الدراسات التاريخية من يد القصر والأجانب إلى الجامعة.
- تخرج على يد شفيق غربال عدد من المؤرخين الكبار، كتبوا أطروحاتهم العلمية تحت إشرافه، واحتلوا أماكنهم في الجامعة، وأثروا المكتبة التاريخية بدراساتهم الرصينة، وواصلوا مسيرة أستاذهم في البحث والعلم، وكانوا يفخرون بأنهم درسوا على يد غربال..
- ومن أشهر هؤلاء: د. أحمد عزت عبد الكريم ، د. عبد العزيز الشناوي ، محمد رفعت رمضان د. أحمد أحمد حتة ،د. حسن عثمان
- درس شفيق غربال الأصول التاريخية التي كونت تطور مصر في القرن التاسع عشر فكتب بحثه العميق “مصر على مفرق الطرق”، وتشتمل هذه الدراسة على تحقيق مخطوط بعنوان “ترتيب الديار المصرية في عهد الدولة العثمانية” كما شرحه حسين أفندي أحد أفندية الروزنامة في مصر العثمانية، وهو عبارة عن أسئلة موجهة من “المسيو إستيف” مدير مالية مصر خلال الحملة الفرنسية إلى حسين أفندي حول أحوال مصر الإدارية والمالية وإجابات حسين أفندي عليها.
وقدم الأستاذ غربال في هذا البحث نموذجًا لنشر النصوص التاريخية نشرًا علميًا محققًا، وفتح به ميدان البحث في تاريخ مصر العثمانية.
كما نشر بحثه عن “الجنرال يعقوب والفارس لسكاريس ومشروع استقلال مصر في سنة 1801م”. وتناول فيه فكرة استقلال مصر عن تركيا على أساس التفاوض في العواصم الأوروبية كما تخيلها يعقوب حنا ولسكاريس بعد جلاء الفرنسيين عن مصر، وقد بني هذا البحث على المصادر العربية والغربية. وهذا البحث كان أصلا محاضرات عامة ألقاها غربال في الجمعية الجغرافية.
ثم نشر سنة (1363م ـ 1944) كتابة “محمد علي الكبير”. ويعد هذا الكتاب على صغر حجمه من أفضل الدراسات التاريخية التي كتبت باللغة العربية، وهو ليس ترجمة لسيرة محمد علي ولكنه بحث عميق في أصول المجتمع المصري كما كان يعيش في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، ثم تقصّ دقيق لما طرأ على هذا المجتمع من تغيرات واسعة خلال هذه الفترة.
ثم نشر في سنة 1952 دراسة قيمة بعنوان “تاريخ المفاوضات المصرية البريطانية”، وهو عبارة عن بحث في العلاقات المصرية البريطانية منذ الاحتلال سنة 1882 إلى معاهدة التحالف المصرية البريطانية في سنة 1936م، وهذه الدراسة كانت المحاولة الأولى من جانب غربال للكتابة في القضايا المعاصرة والتعرض للحركة الوطنية المصرية بعد أن كان القرن التاسع عشر يحتل مكان الصدارة من اهتماماته.
أما آخر ما كتبه من دراسات فكان بعنوان “منهاج مفصل لدراسة العوامل التاريخية في بناء الأمة العربية على ما هي عليه اليوم” والكتاب ليس تاريخا للأمة العربية، ولكنه فلسفة لتاريخها، وهو في الأصل محاضرات ألقاها على طلبة معهد الدراسات العربية بالقاهرة،
- قدم غربال للدراسات التاريخية في مصر خدمات جليلة، تمثلت في إنشاء الجمعية المصرية للدراسات التاريخية والنهوض بها، وإنشاء “متحف الحضارة المصري” سنة 1949، كما أنه مثل مصر سنة 1945 في عدة مؤتمرات تاريخية، وانتخب عضوًا بالمجلس التنفيذي لليونسكو من سنة 1946 حتى سنة 1950 ممثلا للشرق الأوسط.
يضاف إلى ذلك أن هيئة اليونسكو اختارته سنة (1370هـ ـ 1951) لعضوية لجنة من 12 مؤرخا من أبرز مؤرخي العالم ليكونوا مستشارين لها في شئون تاريخ العالم.
واختير غربال عضوا في عدد من الهيئات والمجامع العلمية، فكان عضوًا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وعضوًا بالمجمع العلمي المصري، والجمعية الجغرافية، والمجلس الأعلى للآثار، وترأس الجمعية المصرية للدراسات التاريخية.
وبعد تقاعده تولى منصب مدير معهد الدراسات العربية العالمية التابع لجامعة الدول العربية، فبعث فيه الحركة والنشاط، ونجح في اختيار الصفوة من أهل العلم ليحاضروا فيه، وأن يربط بينه وبين المعاهد المماثلة في الخارج، وفي عهده أخرج المعهد عددًا من الدراسات القيمة في الأدب والتاريخ والاقتصاد والسياسة.
وعمل غربال على توجيه طلاب الدراسات التاريخية بالمعهد إلى تاريخ الأمة العربية الحديث والمعاصر، وأشرف على عدد من رسائلهم التي سلكت هذا الاتجاه.
- أشرف على إخراج أول دائر معارف عربية صغيرة باسم الموسوعة العربية الميسرة، فكان رئيسا لمجلس إدارتها ومشرفًا على تحرير المواد التاريخية، لكنه لم ير هذا العمل مطبوعا حيث توفي بعد مرض قصير، وذهب إلى لقاء ربه في 19 أكتوبر 1961.